معرض القاهرة للكتاب- بين حصاد المرحلة والحلم بعودة الروح

في خضم فعاليات الدورة الخامسة والخمسين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، المُقام في الفترة من 24 يناير وحتى 6 فبراير 2024، برزت ندوة بعنوان "حصاد المرحلة الأولى من الحوار الوطني.. الحوار الوطني المستمر"، ولكنها ربما لا ترقى إلى وصف الندوة بالمعنى الدقيق.
فالبرنامج المطبوع للمعرض يشتمل على متحدث واحد فقط، وهو المستشار محمود فوزي، بالإضافة إلى عبارة "بالتعاون مع تنسيقية شباب الأحزاب"، مما يشير إلى وجود جهة منظمة أخرى. الجلسة "يديرها أحمد عبد الصمد"، وهي إدارة وليست محاورة، مع مستشار عُرف كرئيس للحملة الانتخابية للسيسي في انتخابات ديسمبر 2023، حين سألته المذيعة عن سبب تأثره "بشدّة وبإنسانية كبيرة في ذكر منجز السيد الرئيس؟"، فأجاب: "الأرقام.. الأرقام مُفزعة.. إذا نظر أحد للأرقام بإنصاف، لن يجد كلامًا". ثم مسح ما بدا أنها دمعة رقراقة.
شوائب قديمة
في سالف العصر والأوان، كان في بلدتنا بائع خضراوات يعرض بضاعته، وكانت غالبية ثماره من الفلفل الحار. ظل البائع المسكين طوال اليوم يقضم قرون الفلفل، وتذرف عيناه الدموع غزيرة، ويقسم بالله العظيم مرارًا وتكرارًا بأنه طيب المذاق، مؤكدًا ذلك بفعله العلني، ثم يعاود القضم واليمين ومسح الدموع بغزارة.
ما أيسر الحلف وما أغزر الدموع على بائع الفلفل المخادع! فما الرابط بين الفلفل ومعرض الكتاب؟ كل شيء يمكن أن تجده في المعرض إلا الفلفل الحار. ولن تجد جلسة مشابهة لجلسة المستشار في أي معرض كتاب آخر في العالم. والسبب ليس فقط لأن أغلب الناس لم يأخذوا حكاية الحوار الوطني بجدية، أو لعدم إيلاء هذا الحوار الاهتمام اللازم، أو لطمس معالم الأحزاب السياسية، أو لأن مصطلح "التنسيقية" هو مصطلح مستعار ومفرغ من معانيه الحقيقية، بل بسبب انعدام أي صلة تربط هذا كله بصناعة النشر والكتاب.
ولكن الحق يُقال، معرض القاهرة للكتاب قد تخلّص من الكثير من شوائبه القديمة. لطالما كتبتُ عن تحويل المعرض إلى ما يشبه "الباللو". ما العلاقة بين الكتاب والندوات التي تتناول كرة القدم، واستعراض عرّابي نظام جمال مبارك، وعلى رأسهم علي الدين هلال في أيام ملف استضافة مصر لكأس العالم، وعروض السيرك والأراجوز، ومشكلات الفرق المسرحية المستقلة، وتراجع الأغنية الفصحى، وأزمة السينما، والممثلين الكوميديين الجدد، ومأزِق الدراما المصرية أمام اكتساح الإنتاجات الدرامية السورية؟ ما علاقة كل هذه الأمور، وغيرها الكثير، بصناعة النشر والكتاب؟
في مهرجان الموسيقى يتم النقاش حول قضايا الموسيقى، وفي مهرجان المسرح التجريبي لا يتم التطرق إلى قضايا السينما أو الفن التشكيلي أو الأغاني. أما معرض الكتاب، فهو أشبه بمهرجان يطغى فيه الضجيج والصخب على قضايا صناعة النشر المهددة بالتراجع.
لقد اختفى الكثير من ذلك الضجيج القديم، الذي كان يهدف إلى جذب أكبر عدد من الجماهير، ولكن بقيت بعض الآثار التي تتجاهل أهمية السياق، مثل ندوة بعنوان "استثمر صح"، والتي يشارك فيها أحمد الشيخ، رئيس مجلس إدارة البورصة المصرية، بحضور نخبة من رؤساء مجالس إدارة الشركات، بالإضافة إلى احتفالية بمناسبة مرور "110 أعوام على عضوية مصر في المنظمة الكشفية العالمية".
إعادة تأهيل
سيظل معرض الكتاب مرآة تعكس الواقع المصري بكل ما فيه من صعود وهبوط، قبل أن يتم تكسير هذه المرايا، وسحب هذا الحدث السنوي الكبير بعيدًا، إلى مكان يسهل فيه التحكم والسيطرة، حيث لا يرتفع أي صوت في الصحراء.
تمعّن في عناوين معرض الكتاب عام 2012، في تلك الفترة التي كانت فيها الآمال معلقة في السماء: "الدولة المدنية"، "شهادات من ميدان التحرير"، "المدونات بين السياسة والأدب"، "شعراء الميدان"، قبل أن يتم تجريم الميدان، ومحاكمة الأبرياء، وتحميل الثورة أوزار الثورة المضادة.
تربطني علاقة وطيدة بمعرض الكتاب، بدأت قبل سنوات طويلة من دخولي إليه. عندما كنت في الصف الأول الثانوي، أعلنت المدرسة في شهر يناير من عام 1982 عن تنظيم رحلة إلى المعرض، مقابل اشتراك رمزي قدره جنيه واحد، ولكن ذلك الجنيه لم يكن متاحًا لي آنذاك. وتأجل الحلم حتى التحقت بجامعة القاهرة، وهناك رأيت بعيني نزار قباني، ومحمد حسنين هيكل، وعبد الرحمن الأبنودي، ويوسف إدريس، ومحمد عمارة، وغيرهم من القامات الأدبية والفكرية، الذين أضفى حضورهم قيمة كبيرة على المعرض.
بعد التخرج، استأجرت غرفة متواضعة فوق أحد الأسطح في ميدان العباسية، وكنت أذهب سيرًا على الأقدام إلى أرض المعارض. واستمر هذا التقليد، الذهاب على الأقل، حتى بدأت عملية "التصحر" و"التفريغ" التي شهدتها القاهرة، وتحويلها إلى مدينة يسكنها الغربان، وتجريفها المستمر، بحيث تبقى الأطلال شاهدة في انتظار التفاوض على بيعها بأبخس الأسعار، وكانت أرض المعارض إحدى تلك الأطلال.
لقد شغلتني هذه القضية كثيرًا، وهي محور روايتي "2067". لو صدقت النوايا، يمكن من خلال هامش من تأسيس كيان جديد إعادة تأهيل القائم، أي أرض المعارض والقاهرة بأكملها، بدلًا من إهمال المريض وتركه لمصيره المحتوم، والتشفي بمراقبته في انتظار اللحظة التي يتم فيها بيع أعضائه.
لذا قررت ألا أدخل المعرض في منفاه الحالي، باستثناء مرة واحدة في شهر يناير من عام 2020، عندما شاركت أصدقائي فرحتهم بإطلاق كتاب جديد، حيث أخذوني وأعادوني. موقفي هذا هو موقف صامت، وشأن شخصي خاص لم أعلنه، فالمعرض هو موسم للفرح، للجمهور قبل الكتاب، ومصر هي سوق كبرى، وأنا أستخف بمن يروج لمقولة أن معرضًا عربيًا بيع فيه 100 ألف ساندويتش، وأقل من ألف كتاب. لا يا سيدي، في معرض القاهرة تُباع فيه مئات الألوف من الكتب، فهو أكبر من مجرد "معرض".
صفعة إخوانية
قبل ثورة يناير بسنوات قليلة، شاركت مرة يتيمة في مناقشة روايتي "أول النهار". وبعدها رفضت المشاركة، لعدم وجود صلة بين الندوات والكتاب أو الكتابة.
ولكنني تفاءلت بالثورة، وقدمت دار النشر كتابي "الثورة الآن" لجائزة المعرض، وقبل إعلان نتيجة الجوائز، طلب مسؤولون في هيئة الكتاب من دار النشر صورة من بطاقتي الشخصية، وقيل لي إن هذا الإجراء خاص بالفائزين، لترتيب الأمور المتعلقة بالجائزة، يا أهلًا بالفلوس المنتظرة!
ولكنني فوجئت بفوز كتاب "توبة من الإخوان"، في إطار تصعيد إخوان تائبين تلقوا ما يشبه مئة صفعة إخوانية على مؤخرة رؤوسهم على حين غرة، وضحكت من أعماق قلبي، ولا ألوم أولئك "الخرتية" من المحكمين المزمنين، ففهم السياق يوفر الكثير من الجهد، فنحن نعيش في بلد يمكن لمن يقول إن سيد قطب إرهابي أن يصبح وزيرًا للثقافة.
لم أعد أتفاعل مع المعرض. وقد استبقت نقله إلى موقعه الحالي بكتابة مقال غاضب بعنوان "تفريغ القاهرة.. معرض الكتاب وداعًا"، نُشر في صحيفة "العرب" اللندنية في 7 أغسطس 2018. وفي دورة هذا العام، هناك استثناء شخصي يستوجب التوضيح، حيث أشارك في ندوة بعنوان "كتابات يون فوسه بين الباطنية والروحانية"، عن أدب الكاتب النرويجي الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2023.
تلقيت دعوة كريمة من الجانب النرويجي، في إطار الأنشطة المصاحبة لحضور دولة النرويج كضيف شرف في المعرض، ولا أعرف تحديدًا من هم الداعون، ولكنني في عام 2018 نشرت مقالًا عن رواية "صباح ومساء"، ولعله أول مقال باللغة العربية عن يون فوسه قبل حصوله على جائزة نوبل. إنه كاتب استثنائي، وكأنه وُلد بلا آباء أدبيين، وقد تأكدت من ذلك بعد قراءة روايته "ثلاثية". رحلتي إلى المعرض هذه المرة أمر يُحتمل لمرة واحدة.
تواصل مثير للريبة
في مصر، على عكس ما هو سائد في أوروبا والدول المتقدمة، هناك شغف طاغٍ بالحالة المهرجانية، والإفراط في استخدام صيغ التفضيل، والتباهي بالأرقام القياسية، والإعلان عن الأعداد الهائلة من الزائرين، ولكنهم مجرد زائرين عابرين، لا يتفاعلون بشكل حقيقي. هم ضيوف في مهمة محددة، أو غرباء في عزلة، في أرض غريبة توفر لهم النظام والإجراءات المحسوبة بعناية فائقة، وكأنهم داخل ماكيت أو "ديكور" لفيلم سينمائي.
في المقابل، كان موقع المعرض السابق يحقق تواصلًا حقيقيًا مع محيطه البشري والجغرافي، ولكن هذا الأمر لم يكن مرغوبًا فيه، بل كان مثيرًا للريبة والشك، فالمعرض قادر بقدرة قادر على خلق حالة من التجمهر قد تشعل شرارة، ولعل هذا هو السر وراء مطاردته المستمرة من القلب إلى الأطراف، من منطقة الجزيرة إلى مدينة نصر وصولًا إلى الخلاء. ولن أتوقف عن الحلم بمعرض نموذجي للكتاب، يُقام في حديقة قصر عابدين وساحته الفسيحة، أو في ساحة دار الأوبرا المصرية.
إنه حلم بالرهان على رمزية ثورة 25 يناير 2011، وعلى وعودها بدولة المواطنة الحقيقية. في تلك اللحظة، سيتم إعادة طبع الكتب التي وثقت وقائع الثورة، ومنحت الشهداء لقب الشهداء عن جدارة، وسجلت أشواق الحرية من خلال رسوم الغرافيتي على الجدران. حينها لن نرى سيارات الشرطة وهي تطوق قصر عابدين أو دار الأوبرا والساحات المحيطة بهما.
في أوروبا والدول المتقدمة، لا يشاهد الناس جنودًا في الشوارع. هناك تحضر لهيبة القانون وسيادته؛ مما يبعث الطمأنينة في النفوس، ويقضي على مظاهر الخشونة والعنف.
دعونا نحلم، فلا قيود على الأحلام المشروعة، ففي البدء كان الخيال طليقًا، وفي النهاية سيكون كذلك.
